المغتربين ومعاناة الأوطان

عزام التميمي

يضيرنا جداً نحن معشر المغتربين والمهجرين بل والمشردين في الأرض ما تعانيه أوطاننا الأصلية ونتمنى أن تتغير الأوضاع فيها نحو الأفضل، فتتحرر من الاستعمار أو تتخلص من الطغيان، نتمنى أن نرى حقوق الإنسان في أوطاننا تحترم، وألا يبقى في سجونها مظلوم، وألا يزج وراء القضبان فيها بكل من يعبر عن رأي حر أو ينتقد سلوكاً منحرفاً أو يفضح فساداً إدارياً أو سياسياً، وأكبر أمانينا جميعاً أن يتمكن أهلنا، ونتمكن معهم، من العيش بكرامة وحرية في بلادنا، وأن يكون القانون في أوطاننا هو السيد، وأن نقف جميعنا أمامه متساوين لا تمايز بيننا لا بسبب مال أو جاه، ولا لون أو عرق، ولا قبيلة أو جهة، وأن يحتكم الناس في بلادنا إلى قضاء نزيه مستقل، وأن تعبر عن أحوالهم وآرائهم وتظلماتهم صحافة حرة، وأن تتسابق على خدمتهم مؤسسات يملكها المواطن لا من يتسلط عليه فيأكل ماله ويجلد ظهره. نتمنى أن تتاح لنا الفرصة كغيرنا من شعوب البلدان المتقدمة لأن نختار حكامنا عبر صناديق الاقتراع، وأن نحاسبهم دورياً عبر الرجوع إلى تلك الصناديق المرة تلو الأخرى.

لكن كل ذلك، ولئن كان حقاً من حقوقنا، لن يحصل بالتمني، وما نيل المطالب بالتمني. فمن احتلوا ديارنا أو سلبوا أموالنا وحرمونا من حق العيش بحرية وكرامة، لن يتنازلوا لنا ويعيدوا لنا ما سلبوه منا استجابة لمبادرة أو نداء استغاثة أو استعطاف، بل لن يفعلوا ذلك إلا مضطرين، وهذا رأيناه واقعاً قبل سنين معدودة في حالة ثورات الربيع العربي وطالما قرأنا عنه في تجارب الشعوب عبر التاريخ.

ومع ذلك، نجد من حين لآخر من يدفعه العجز عن تغيير الواقع المر إلى جلد ذاته وجلد غيره من المعارضين، فيما لا طائل منه ولا يسمن ولا يغني من جوع. ومثل هذا الجلد لا ينجم عنه إلا مزيد من الكرب والاكتئاب. كثير ممن يمارسونه يفعلون ذلك عن حسن نية، وبسبب مشاعر الإحباط. إلا أن بيننا من يمارسه لأسباب ذاتية ومصالح شخصية، حسداً وحقداً وطمعاً، حتى باتوا معاول هدم في أوساط المغتربين، ديدنهم النيل من كل مجتهد والانتقاص من كل جهد.

المهم، أنه ليس من المنطق في شيء أن نتوقع ممن شردوا في الأرض أن يتمكنوا من فعل الكثير ما لم تتغير موازين القوة على الأرض وينتفض الناس في داخل الوطن الأسير.

وهناك نفر من الناس تهيمن عليه نظرة للسياسة وللعلاقات الدولية لا تمت للواقع بصلة، بل هي أقرب إلى ما يسمى بالإنجليزية wishful thinking، أي التفكير القائم على الأماني، وهو تفكير يفضي إلى نظريات وتوقعات أساسها الوهم لا الحقيقة، والأحلام لا الواقع.

نتوهم إن كنا نظن أن سلطة في دولة ما ستهب لنجدتنا، واستعادة حقوقنا أو ستحارب الظلم نيابة عنا. فالسلطة، أي سلطة، تدير دولة، والدولة لها شعب، وبها قوى سياسية واقتصادية، ولديها أولويات يتم تحديدها انطلاقاً مما يعتبر مصالح وطنية، وفي العادة لا يكون أبداً من تلك الأولويات أن تتدخل بشكل مباشر في شؤون الدول الأخرى إلا ما يكون حماية لمصالح أو درءاً لخطر.

يكفينا حظاً أن نجد من بين الأنظمة السياسية حول العالم من يتفهم وضعنا ويقدم لنا الحد الأدنى من المساندة والتضامن، ويمد يد العون لمن اضطرتهم ظروف بلادهم إلى الهجرة منها. ولا يوجد من مثل هذه الدول من حولنا كثير، بل لا يوجد في منطقتنا ممن تعاطف مع الشعوب المتطلعة نحو الحرية والكرامة سوى تركيا وقطر، وقد تعرضت الدولتان بسبب مواقفهما لضغوط هائلة ومحاولات عدة لتقويضهما من الداخل أو حصارهما من الخارج. وتركيا بالذات قدمت ما لم يقدمه أحد، فاستضافت الملايين من ضحايا الطغيان في سوريا والآلاف من ضحايا الانقلاب الدموي الغاشم في مصر والمئات من أبناء الأقطار الأخرى التي مرت عليها نسائم الربيع العربي مثل تونس واليمن وليبيا والعراق.

ومع ذلك تبقى هذه دول لها حساباتها المرتبطة بمصالحها العليا، وهذا ما لا يدركه بعض ضحايا الظلم والاضطهاد الذين لجأوا إليها فاحتضنتهم وحمتهم. إذ يظنون أنه ينبغي عليها أن تتبنى قضيتهم بالكامل وتشن نيابة عنهم حروب تحرير الأوطان أو تكسير الأغلال. قد لا يرى قلة من السوريين على سبيل المثال فيما قدمته تركيا من استقبال وإيواء وحماية مناطق محررة ومواقف سياسية ودبلوماسية بل وعسكرية مناصرة لقضيتهم ما يكفي، وكأنما تركيا مكلفة بالزحف نحو دمشق، والدخول في حرب مع إيران وروسيا لإسقاط دكتاتور الشام.

وقد لا يرى قلة من المصريين في كل ما قدمه الأتراك من استقبال وإيواء والسماح بنشاط سياسي ودبلوماسي وإعلامي ما يكفي، ويضنون على تركيا أن تناور سياسياً لتفكك ذلك التحالف الشيطاني الذي تم إبرامه بين إسرائيل واليونان وقبرص ومصر، بدعم من فرنسا والإمارات، لحرمانها من حقها في شرق المتوسط وللحد من نفوذها في المنطقة ككل وربما أيضاً لمعاقبتها على موقفها من ثورات الربيع العربي.

نعم، نتمنى ونحلم، أن نرى زعيماً مسلماً متمكناً، يملك من الشجاعة والقدرات، ومن تفويض الناس له في بلاده، ما يمكنه من النهوض لنصرة المظلومين في بلاد المسلمين من شرقها إلى غربها، يهابه أعداء الإسلام فلا يجرؤون على قهر موحد لله في ديارهم. ولكن ذلك سيظل إلى حين جزءاً من أحلامنا وأمانينا فقط لا غير، ولا يعلم إلا الله متى يتحقق في أرض الواقع.

في ضوء ما يتردد حول تقارب مصري تركي، أو مصالحة مرتقبة بين نظامي القاهرة وأنقرة، وما يتوقعه البعض من مصالحة كذلك بين الدوحة والقاهرة، يثير بعض المصريين المغتربين موضوع دور المعارضة المصرية في الخارج، ويطالبونها باغتنام الفرصة وتحقيق مكاسب تؤدي إلى بعض من الانفراج في بلادهم، لا أقل أن يكون في حده الأدنى إطلاق سراح المعتقلين أو بعضهم. وإن لم تفعل فهي تستحق الجلد وأن تنعت بكل ما هو مسيء. كما يتصور البعض أن الدوحة وأنقرة، وبسبب ما عبرتا عنه من تعاطف وتضامن وما قدمتاه من نصرة، فهما قادرتان على مقايضة النظام في مصر، بما يضمن تحرير الأسرى وإنجاز بعض الإصلاحات.

ما لا يدركه هذا النفر من الناس هو أن النظام في مصر لا يجد نفسه مضطراً حالياً لا لإطلاق سراح المعتقلين ولا لإحداث أي إصلاحات، فمازال ميزان القوة المحلي والإقليمي والدولي لصالحه. أما قطر وتركيا فهما دول ككل دول العالم، والدول في العادة لا تفاوض أنظمة الدول الأخرى على أوضاع حقوق الإنسان فيها، وإنما على مصالح تتعلق بها هي بشكل مباشر.

ما من شك في أن كثيراً من الدول الديمقراطية في الغرب، وحتى الداعمة لنظام السيسي في مصر، تتمنى لو أنه يقتنع بأن يجمل وجهه ويحسن من أوضاع حقوق الإنسان لديه، على الأقل لرفع الحرج عنها في التعامل معه. ولكنها لا تملك أن تضغط عليه، ربما إلا فيما يمس مواطنيها هي بشكل مباشر، وذلك خشية أن تضحي بما تراه مصالح وطنية، اقتصادية أو سياسية.

حتي الدول المتعاطفة بصدق مع حقوق الإنسان والديمقراطية، ما كانت لتفعل الكثير ما لم ينتفض الناس داخل مصر مجدداً، كما فعلوا في 2011، فهي تدرك أنه ما لم يتحرك الناس، ليس في مصر فحسب بل وفي كل بلد يئن الناس فيه تحت وطأة الطغيان، فلن تتغير أحوالهم نحو الأفضل.

هذا هو الواقع. ولذلك لا يتجاوز دور المعارضين في الخارج السعي بما أوتوا من إمكانيات إلى رفع مستوى الوعي بين الناس، الذين لولا أنه تم استغفال أعداد غفيرة منهم قبل ثمانية أعوام لما نجح العسكر في الانقلاب على الديمقراطية والقضاء على أحلام الشعب المصري في الحرية والكرامة.

ورفع مستوى الوعي بين الناس في مصر هو الدور الذي ما فتئت تقوم به القنوات التي يطالب حكام القاهرة أنقرة بإسكاتها تماماً.

ما من شك في أن القنوات الثلاث: الشرق، مكملين، ووطن، ورغم كل ما تعانيه من شح في الإمكانيات، إلا أنها ما فتئت تقض مضجع النظام في القاهرة بما تقدمه من رؤية مخالفة لإعلام النظام وما تساهم فيه من ارتقاء بمنسوب الوعي لدى الجمهور داخل مصر وخارجها. ولولا ما لها من تأثير على الرأي العام في مصر لما اعتبرها النظام هناك حجر عثرة في طريق عودة العلاقات بين البلدين.

إلا أن أنقرة لم توافق على إسكات أي صوت إعلامي، ولا أظنها أبداً ستوافق على ذلك. ولقد تسرع نفر من المصريين داخل تركيا وخارجها وراحوا يبثون ما لا يجوز بحق تركيا التي أحسنت إليهم، في إساءة لم تنل تركيا فحسب بل ونالت كل مصري أو عربي وجد لدى إخوانه الأتراك حضناً دافئاً وملاذاً آمنا.

كل ما طلبته السلطات التركية من القنوات هو الانضباط بالمعايير المهنية، وهو أمر مشروع، ولا ينتقص إطلاقاً من فضل تركيا، حكومة وشعباً، على المظلومين من أهل مصر وأهالي الأقطار العربية الأخرى التي تعاني من الاستبداد.

كما لا يُنقص من فضل هذه القنوات الاعتراف بأنها فعلاً بحاجة إلى تحسين أدائها وإلى التأكد من أن ما يعرض على شاشاتها يكون منضبطاً بالمعايير المهنية المتوافق عليها دولياً، وأن من يظهرون على هذه الشاشات، سواء كانوا مقدمين (مذيعين) أو ضيوفاً ينبغي عليهم أن يترفعوا عن محاكاة الأساليب غير المهنية التي غدت من خصائص وسائل الإعلام التي تتحكم بها أجهزة الأمن المصرية والتي يعتمد جلها الردح أسلوباً والتضليل وسيلة.

وأما فيما يتعلق بالتقارب بين مصر وتركيا، وما يحتمل أن يحدث من مصالحة بين القاهرة والدوحة، فهذا كله جزء من حراك يتفاعل حالياً في منطقة شرق المتوسط، وهو حراك، رغم ما يخشاه البعض منه على المدى القصير، إلا أنه سيثمر على المدى المتوسط والبعيد ما فيه خير الشعوب المتطلعة نحو الحرية والديمقراطية في المنطقة بأسرها. ولعل من ثمار ذلك أن يتراجع الاستقطاب بين دول المنطقة، الأمر الذي سيرفع كثيراً من العنت عن شعوبها، التي تدفع أثماناً باهظة جراء العداوات والخصومات والحصارات والحروب الطاحنة، كتلك التي شهدتها ليبيا ومازال يشهدها اليمن.